لقد أحببتها بجنون!
لماذا نحب؟ لماذا نحب؟
كم من الغريب أن لا نرى سوى شخص واحد فى الوجود..أن يكون لدينا فكرة واحدة فى العقل..رغبة واحدة فى القلب..واسم واحد على الشفاه..اسم ينطق باستمرار..يتعالى كمياه فى جدول من أعماق الروح الى الشفاه..اسم يكرره المرء مرات ومرات ..يهمس به بلا توقف فى كل مكان كالمناجاة..
سوف أروى لكم قصتنا..لأن لأى حب قصة واحدة..وهى دائما نفس القصة...التقيتها وأحببتها..وكان هذا كل شىء!
ولعام كامل..عشت على حنانها..لمساتها..فى أحضانها..فى كل شىء ات منها حتى أننى لم أعد أهتم بالزمان.. أصباحا أم مساءا...أأنا ميت أم حى فوق ارضنا العجوز هذه..
وبعد ذلك ماتت.. كيف ؟لا أعلم.. لم أعد أعلم أى شىء ...ولكنها فى ليلة عادت مبتلة لأن السماء كانت تمطر بغزارة وفى اليوم التالى سعلت.. وظلت تسعل لأسبوع ورقدت فى فراشها... ما الذى حدث؟.. لم أعد أذكر الآن ..ولكن أطباء حضروا كتبوا ...وأنصرفوا... أدوية كانت تجلب.. بعض النسوة جعلنها تجرعها ..كانت يديها ساخنتين وجبينها ملتهب وعينيها تبرقان بحزن ...عندما تحدثت اليها كانت تجيبنى.. ولكنى ...لا أذكر ماقلناه.. نسيت كل شىء.
لقد ماتت ..وأذكر جيدا تنهيدتها الضعيفة الخافتة... وصرخة الممرضة... وفهمت. لا أعرف شىء آخر.. زارها قس... وسألنى: عشيقتك؟... وبدا لى أنه يهينها... الان وقد ماتت لا يحق لأحد أن يقول ذلك بعد اليوم وطردته ..وأتى آخر ..كان حانيا ورقيقا وقد ذرفت الدمع حينما حادثنى عنها ... استشارونى فى الجنازة ولكنى لا أذكر شيئا قالوه ...على الرغم من أننى أذكر الكفن..وأذكر النعش الذى رقدت بداخله..يالهى..يالهى
لقد دفنت ..دفنت..حبيبتى ..فى حفرة!
بعض الناس حضروا ...صديقات... ولكنى غادرت.. هربت من المكان وركضت وسرت فى الطرقات ...عدت الى وطنى وفى اليوم التالى استانفت رحلتى.
بالامس عدت الى باريس.. وحينما رايت حجرتى.. حجرتنا.. فراشنا.. اثاثنا... كل ما تبقى من حياة انسان بعد الموت... اعتصرتنى نوبه قاسيه من الحزن العميق حتى راودتنى رغبة ان افتح النافذة والقى بنفسى خارجها.
لا استطيع ان اعيش وسط هذه الاشياء.. بين هذه الجدران.. التى احتوتها.. وحمتها.. والتى تحوى الاف الذرات منها.. من بشرتها.. وانفاسها.. بين شقوقها الدقيقة.
تناولت قبعتى استعدادا للهرب... وحينما وصلت للباب كنت قد مررت بالمراة الكبيرة فى الصالة.. والتى وضعتها هى هناك حتى ترى نفسها كل يوم من رأسها وحتى أخمص قدميها... تستوثق من زينتها وجمالها ..تتأكد من انها فى كامل اناقتها من حذائها الصغير وحتى قبعتها.
وقفت لحظة قصيرة امام هذه المراة التى طالما عكست صورتها مرات ومرات حتى انها لابد وان تكون محتفظة داخلها بهذا الانعكاس... وقفت هناك ارتعد.. عيناى مثبتتان على السطح الزجاجى الفارغ العميق الذى احتواها بأكملها واحتضنها مثلما احتضنتها نظراتى الولهة.
شعرت بأننى قد أحببت هذه المراة.. لمستها... كانت باردة... يا الهى.. الذكرى.. مراة حزينة.. مراة مؤلمة.. مراة مفزعة... تجعل المرء يعانى هذه العذابات... السعيد هو من ينسى كل مايمر به قلبه.
خرجت دون أن أعلم.. دون أن أتمنى.. واتجهت للمقابر.. وجدت مقبرتها البسيطة صليب أبيض رخامى عليه كلمات قليلة:
"أحبت وكانت محبوبة وماتت"
هى هنا.. بالأسفل.. تتحلل.. ياللفظاعة!.. انتحبت وجبينى على الارض.
وظللت هناك وقتا طويلا.. طويلا ...ثم أدركت أن الوقت مساءا.. ورغبة غريبة مجنونة.. رغبة عاشق يائس تملكتنى.. تمنيت لو أقضى الليل اخر ليلة ابكيها على قبرها.. وانتبهت لانه اذا رانى احد فسوف يخرجنى من هنا.
فكيف اتصرف؟ كنت ماكرا.. ونهضت ..وبدأت اهيم على وجهى فى مدينة الموتى.. سرت.. وسرت... يالها من مدينة صغيرة بالمقارنة بالاخرى!
بالمقارنة بالمدينة التى نعيش فيها نحن الاحياء.. ومع ذلك... كم تحوى اعدادا كثيرة من الموتى تزيد على عدد الاحياء!.. نحن نريد مساكن شاهقة.. شوارع عريضة... ومساحات كافية للاجيال الاربعة التى ترى مولد الفجر فى نفس الوقت ...تشرب الماء من نفس النبع... والخمر من نفس عناقيد العنب..
والخبز من نفس موائده ...
ومن كل اجيال الموتى... كل سلالة الجنس البشرى التى انحدرنا منها... لا يوجد شىء.... تستعيدهم الارض.. ويطويهم النسيان... فوداعا!
وفى نهاية المقابر ادركت اننى فى اقدم اطرافه... حيث يختلط الموتى بالتربة... حيث تبلى الصلبان نفسها... حيث سيقبل غدا وافدين جدد..
كنت وحدى... وحدى تماما... ربضت فى شجرة خضراء... وخبأت نفسى تماما وسط الفروع السميكة الداكنة... انتظرت متشبثا بالساق كما يفعل الناجى من حطام السفينه بلوح من الخشب ...وحينما اظلم الكون, تركت مأواى.. وبدأت فى السير بهدوء وبطءوسط هذه الارض الملئى بالموتى... ظللت اتجول لوقت طويل.. ولكنى لم استطع العثور على مقبرتها مرة اخرى.
استأنفت رحلتى بأذرع مشرعة.. أصدم المقابر بيدى.. بقدمى.. بركبتى ..بصدرى.. حتى برأسى.. دون أن أجدها.
تحسست طريقى كالاعمى.. شعرت بالحجارة والصلبان والافاريز الحديدية والاكاليل المعدنية واكاليل الزهور الذابلة.
تحسست الاسماء باناملى لاقراها..يالها من ليله.. يالها من ليله..!
لم استطع ان اجدها مرة اخرى.
لم يكن هناك قمر... كنت خائفا مرعوبا فى هذه الممرات الضيقة بين صفين من القبور.. قبور... قبور ....قبور
لاشىء سوى القبور... عن يمينى.. وعن يسارى... امامى... وحولى... فى كل مكان كانت القبور.
جلست على احدهم ...لم اعد استطيع المسير... ركبتاى كانتا تؤلمانى.. وكنت اسمع نبضات قلبى عاليه.. وسمعت شيئا اخر كذلك.... ماذا ؟ ضوضاء غامضة خفية فى عتمة الليل؟.. ام تحت الارض الغامضة؟...الارض المبذورة بجثث البشر؟
نظرت حولى... لا استطيع ان اجزم كم من الوقت مكثت.
كان الرعب يشلنى والخوف يجمدنى وبت مستعدا للصراخ والموت.
فجأة بدا لى ان لوح المقبرة الذى اجلس عليه يتحرك.. كان يتحرك بكل تاكيد.. كانما يرفع... قفزت منتفضا الى المقبرة المجاورة.. ورأيت... نعم رأيت الغطاء الذى غادرته توا يتحرك ويرفع ...وظهر منه الشخص الميت... هيكل عظمى عارى دفع الغطاء بعيدا بظهره المحنى رأيته بوضوح ..بالرغم من الظلام الحالك وقرأت على شاهد القبر:
"هنا يرقد جاك اوليفانت الذى مات فى سن الحادية والخمسين أحب أسرته وكان حنونا وشريفا ومات فى رحمة من الله"
قرأ الميت ماهو محفور على شاهد قبره.. ثم التقط حجرا من الممر ...حجرا مدببا.. وكحت به الحروف بعناية ..محاهم ببطء.. وبفتحتى عينيه الخاويتين نظر على مكانهم المحفور... ثم بطرف عظام ما كان يوما سبابته كتب بحروف من نور:
"هنا يرقد جاك اوليفانت الذى مات عند سن الحادية والخمسين كان المجل بموت والده بقسوته ورغبته فى ان يرثه عذب زوجته اساء لاطفاله خدع جيرانه وسرق كل من استطاع سرقته ومات ملعونا"
وحينما انهى الكتابة توقف هناك بلا حراك ناظرا الى عمل يديه... وبالتفاتى... رأيت كل المقابر مفتوحة وكل الاجساد الميتة تظهر منها.. تمحو كل الاكاذيب المحفورة على شواهد القبور لتستبدلها بالحقائق.
ورأيت أنهم كانوا جميعا سوط عذاب لجيرانهم.. خبثاء غير شرفاء.. منافقين.. كاذبين... مخادعين.. مفترين... حاقدين ...سرقوا ,وخدعوا, وقاموا بكل ماهو خسيس, وكل ماهو مكروه, كل هؤلاء الاباء الصالحين ,والزوجات المخلصات, كل هؤلاء الابناء البارين, والبنات الصالحات, وكل التجار الشرفاء ,والرجال والنساء الذين تجردوا من العيوب, كلهم ,كانوا يكتبون الحقيقة فى نفس الوقت وهم على شفا مثواهم الاخير.
الحقيقة الفظيعة.. المقدسة.. التى كان يجهلها كل الناس.. أو يتجاهلونها حينما كان هؤلاء على قيد الحياة.
واعتقدت انها هى ايضا لابد وأن تكون قد كتبت شيئا على شاهد قبرها.
والان ...كنت اركض بلا خوف... وسط هذه القبور المفتوحة... بين الجثث والهياكل... اتجهت صوبها.. متاكدا من اننى سأجدها على الفور... وتعرفت عليها فى الحال.... دون أن أرى وجهها الذى كان يلفه الكفن.
وعلى شاهد قبرها الرخامى, استطعت أن أرى الان:
"خرجت فى يوم ممطر لتخون حبيبها فاصابها البرد وماتت"
وفى صباح اليوم التالى وجدونى _على ما اظن_ فاقد الوعى فوق المقبرة.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)

No comments:
Post a Comment