Thursday, 17 September 2009

أكان حلما...ترجمتى لجى دى موباسان

لقد أحببتها بجنون!
لماذا نحب؟ لماذا نحب؟
كم من الغريب أن لا نرى سوى شخص واحد فى الوجود..أن يكون لدينا فكرة واحدة فى العقل..رغبة واحدة فى القلب..واسم واحد على الشفاه..اسم ينطق باستمرار..يتعالى كمياه فى جدول من أعماق الروح الى الشفاه..اسم يكرره المرء مرات ومرات ..يهمس به بلا توقف فى كل مكان كالمناجاة..
سوف أروى لكم قصتنا..لأن لأى حب قصة واحدة..وهى دائما نفس القصة...التقيتها وأحببتها..وكان هذا كل شىء!
ولعام كامل..عشت على حنانها..لمساتها..فى أحضانها..فى كل شىء ات منها حتى أننى لم أعد أهتم بالزمان.. أصباحا أم مساءا...أأنا ميت أم حى فوق ارضنا العجوز هذه..
وبعد ذلك ماتت.. كيف ؟لا أعلم.. لم أعد أعلم أى شىء ...ولكنها فى ليلة عادت مبتلة لأن السماء كانت تمطر بغزارة وفى اليوم التالى سعلت.. وظلت تسعل لأسبوع ورقدت فى فراشها... ما الذى حدث؟.. لم أعد أذكر الآن ..ولكن أطباء حضروا كتبوا ...وأنصرفوا... أدوية كانت تجلب.. بعض النسوة جعلنها تجرعها ..كانت يديها ساخنتين وجبينها ملتهب وعينيها تبرقان بحزن ...عندما تحدثت اليها كانت تجيبنى.. ولكنى ...لا أذكر ماقلناه.. نسيت كل شىء.
لقد ماتت ..وأذكر جيدا تنهيدتها الضعيفة الخافتة... وصرخة الممرضة... وفهمت. لا أعرف شىء آخر.. زارها قس... وسألنى: عشيقتك؟... وبدا لى أنه يهينها... الان وقد ماتت لا يحق لأحد أن يقول ذلك بعد اليوم وطردته ..وأتى آخر ..كان حانيا ورقيقا وقد ذرفت الدمع حينما حادثنى عنها ... استشارونى فى الجنازة ولكنى لا أذكر شيئا قالوه ...على الرغم من أننى أذكر الكفن..وأذكر النعش الذى رقدت بداخله..يالهى..يالهى
لقد دفنت ..دفنت..حبيبتى ..فى حفرة!
بعض الناس حضروا ...صديقات... ولكنى غادرت.. هربت من المكان وركضت وسرت فى الطرقات ...عدت الى وطنى وفى اليوم التالى استانفت رحلتى.
بالامس عدت الى باريس.. وحينما رايت حجرتى.. حجرتنا.. فراشنا.. اثاثنا... كل ما تبقى من حياة انسان بعد الموت... اعتصرتنى نوبه قاسيه من الحزن العميق حتى راودتنى رغبة ان افتح النافذة والقى بنفسى خارجها.
لا استطيع ان اعيش وسط هذه الاشياء.. بين هذه الجدران.. التى احتوتها.. وحمتها.. والتى تحوى الاف الذرات منها.. من بشرتها.. وانفاسها.. بين شقوقها الدقيقة.
تناولت قبعتى استعدادا للهرب... وحينما وصلت للباب كنت قد مررت بالمراة الكبيرة فى الصالة.. والتى وضعتها هى هناك حتى ترى نفسها كل يوم من رأسها وحتى أخمص قدميها... تستوثق من زينتها وجمالها ..تتأكد من انها فى كامل اناقتها من حذائها الصغير وحتى قبعتها.
وقفت لحظة قصيرة امام هذه المراة التى طالما عكست صورتها مرات ومرات حتى انها لابد وان تكون محتفظة داخلها بهذا الانعكاس... وقفت هناك ارتعد.. عيناى مثبتتان على السطح الزجاجى الفارغ العميق الذى احتواها بأكملها واحتضنها مثلما احتضنتها نظراتى الولهة.
شعرت بأننى قد أحببت هذه المراة.. لمستها... كانت باردة... يا الهى.. الذكرى.. مراة حزينة.. مراة مؤلمة.. مراة مفزعة... تجعل المرء يعانى هذه العذابات... السعيد هو من ينسى كل مايمر به قلبه.
خرجت دون أن أعلم.. دون أن أتمنى.. واتجهت للمقابر.. وجدت مقبرتها البسيطة صليب أبيض رخامى عليه كلمات قليلة:

"أحبت وكانت محبوبة وماتت"

هى هنا.. بالأسفل.. تتحلل.. ياللفظاعة!.. انتحبت وجبينى على الارض.
وظللت هناك وقتا طويلا.. طويلا ...ثم أدركت أن الوقت مساءا.. ورغبة غريبة مجنونة.. رغبة عاشق يائس تملكتنى.. تمنيت لو أقضى الليل اخر ليلة ابكيها على قبرها.. وانتبهت لانه اذا رانى احد فسوف يخرجنى من هنا.
فكيف اتصرف؟ كنت ماكرا.. ونهضت ..وبدأت اهيم على وجهى فى مدينة الموتى.. سرت.. وسرت... يالها من مدينة صغيرة بالمقارنة بالاخرى!

بالمقارنة بالمدينة التى نعيش فيها نحن الاحياء.. ومع ذلك... كم تحوى اعدادا كثيرة من الموتى تزيد على عدد الاحياء!.. نحن نريد مساكن شاهقة.. شوارع عريضة... ومساحات كافية للاجيال الاربعة التى ترى مولد الفجر فى نفس الوقت ...تشرب الماء من نفس النبع... والخمر من نفس عناقيد العنب..
والخبز من نفس موائده ...
ومن كل اجيال الموتى... كل سلالة الجنس البشرى التى انحدرنا منها... لا يوجد شىء.... تستعيدهم الارض.. ويطويهم النسيان... فوداعا!
وفى نهاية المقابر ادركت اننى فى اقدم اطرافه... حيث يختلط الموتى بالتربة... حيث تبلى الصلبان نفسها... حيث سيقبل غدا وافدين جدد..
كنت وحدى... وحدى تماما... ربضت فى شجرة خضراء... وخبأت نفسى تماما وسط الفروع السميكة الداكنة... انتظرت متشبثا بالساق كما يفعل الناجى من حطام السفينه بلوح من الخشب ...وحينما اظلم الكون, تركت مأواى.. وبدأت فى السير بهدوء وبطءوسط هذه الارض الملئى بالموتى... ظللت اتجول لوقت طويل.. ولكنى لم استطع العثور على مقبرتها مرة اخرى.
استأنفت رحلتى بأذرع مشرعة.. أصدم المقابر بيدى.. بقدمى.. بركبتى ..بصدرى.. حتى برأسى.. دون أن أجدها.
تحسست طريقى كالاعمى.. شعرت بالحجارة والصلبان والافاريز الحديدية والاكاليل المعدنية واكاليل الزهور الذابلة.
تحسست الاسماء باناملى لاقراها..يالها من ليله.. يالها من ليله..!
لم استطع ان اجدها مرة اخرى.
لم يكن هناك قمر... كنت خائفا مرعوبا فى هذه الممرات الضيقة بين صفين من القبور.. قبور... قبور ....قبور
لاشىء سوى القبور... عن يمينى.. وعن يسارى... امامى... وحولى... فى كل مكان كانت القبور.
جلست على احدهم ...لم اعد استطيع المسير... ركبتاى كانتا تؤلمانى.. وكنت اسمع نبضات قلبى عاليه.. وسمعت شيئا اخر كذلك.... ماذا ؟ ضوضاء غامضة خفية فى عتمة الليل؟.. ام تحت الارض الغامضة؟...الارض المبذورة بجثث البشر؟
نظرت حولى... لا استطيع ان اجزم كم من الوقت مكثت.
كان الرعب يشلنى والخوف يجمدنى وبت مستعدا للصراخ والموت.
فجأة بدا لى ان لوح المقبرة الذى اجلس عليه يتحرك.. كان يتحرك بكل تاكيد.. كانما يرفع... قفزت منتفضا الى المقبرة المجاورة.. ورأيت... نعم رأيت الغطاء الذى غادرته توا يتحرك ويرفع ...وظهر منه الشخص الميت... هيكل عظمى عارى دفع الغطاء بعيدا بظهره المحنى رأيته بوضوح ..بالرغم من الظلام الحالك وقرأت على شاهد القبر:
"هنا يرقد جاك اوليفانت الذى مات فى سن الحادية والخمسين أحب أسرته وكان حنونا وشريفا ومات فى رحمة من الله"
قرأ الميت ماهو محفور على شاهد قبره.. ثم التقط حجرا من الممر ...حجرا مدببا.. وكحت به الحروف بعناية ..محاهم ببطء.. وبفتحتى عينيه الخاويتين نظر على مكانهم المحفور... ثم بطرف عظام ما كان يوما سبابته كتب بحروف من نور:

"هنا يرقد جاك اوليفانت الذى مات عند سن الحادية والخمسين كان المجل بموت والده بقسوته ورغبته فى ان يرثه عذب زوجته اساء لاطفاله خدع جيرانه وسرق كل من استطاع سرقته ومات ملعونا"

وحينما انهى الكتابة توقف هناك بلا حراك ناظرا الى عمل يديه... وبالتفاتى... رأيت كل المقابر مفتوحة وكل الاجساد الميتة تظهر منها.. تمحو كل الاكاذيب المحفورة على شواهد القبور لتستبدلها بالحقائق.
ورأيت أنهم كانوا جميعا سوط عذاب لجيرانهم.. خبثاء غير شرفاء.. منافقين.. كاذبين... مخادعين.. مفترين... حاقدين ...سرقوا ,وخدعوا, وقاموا بكل ماهو خسيس, وكل ماهو مكروه, كل هؤلاء الاباء الصالحين ,والزوجات المخلصات, كل هؤلاء الابناء البارين, والبنات الصالحات, وكل التجار الشرفاء ,والرجال والنساء الذين تجردوا من العيوب, كلهم ,كانوا يكتبون الحقيقة فى نفس الوقت وهم على شفا مثواهم الاخير.
الحقيقة الفظيعة.. المقدسة.. التى كان يجهلها كل الناس.. أو يتجاهلونها حينما كان هؤلاء على قيد الحياة.
واعتقدت انها هى ايضا لابد وأن تكون قد كتبت شيئا على شاهد قبرها.
والان ...كنت اركض بلا خوف... وسط هذه القبور المفتوحة... بين الجثث والهياكل... اتجهت صوبها.. متاكدا من اننى سأجدها على الفور... وتعرفت عليها فى الحال.... دون أن أرى وجهها الذى كان يلفه الكفن.
وعلى شاهد قبرها الرخامى, استطعت أن أرى الان:

"خرجت فى يوم ممطر لتخون حبيبها فاصابها البرد وماتت"

وفى صباح اليوم التالى وجدونى _على ما اظن_ فاقد الوعى فوق المقبرة.

حادثة سرقة

محطات متقطعة كلقطات فى الحياة العابرة..تتابع الشريط الممزق عبر النافذة الواطئة بجوارها..يديها قابضتان على الجريدةالمفتوحة..حزام الحقيبة يلف ذراعهافى قسوة..شعرها يقفز فى محاولة للتحرر مما يقيده فى قمة رأسها..أول مرة تعقصه بهذا العنف ..تطوى جزء من الجريدة لتلقى نظرة على عقارب الساعة حول معصمها..أحكمت الساعة حول معصمها هذه المرة..أحكمتها جدا..حتى أنها تشعر باحتباس دمائها..لاتريد لما حدث أن يتكرر..تطبق أكثر بأناملها على الجريدة كلما تذكرت..سرقة فى وضح النهار..نظرت حولها بتوجس كما تفعل كل لحظة..مع تدفق الناس يزيد الزحام وتزيد الخطورة..من ؟
...رجال على وجوههم الهيبة..لا تكاد تحصى عدد الشباب ذوى العضلات البارزة..ابتسمت فى سخرية وهزت رأسها فى أسف ثم همست:مناظر
عادت تستأنف سطور الجريدة مع اقلاع المترو من جديد..
توقف المترو فجأة..واهتز جسدها فى عنف وسقط عليها ثقل ..رجل فى مقتبل العمر..التحم بالجريدة..أصبح بين ذراعيها فجأة..وبنفس سرعة الالتحام كان الانفصال..انتفض مبتعدا يهمس بكلمات الاعتذار الشديد....مهذب جدا..عطره اخاذ..طالعته وهو يسهب فى الاعتذار وابتسمت..ما الذى جذبها الى عينيه..وجه به ملامح طفولة عذبة وبراءة لا حدود لها..أحرجه الموقف فاكتسى وجهه بحمرة الخجل وهو لا ينفك يعتذر..ضحكت وهى تقول بصوت خفيض:لا عليك
تبادلت معه النظرات بين اللحظة والاخرى..كان يبتسم كل مرة ابتسامة ملؤها الخجل..من النادر أن ترى الخجل هذه الأيام..كانت تسترق النظرات رغما عنها..لا تستطيع تجاهل وجوده..أربكتها الجريدة فى يدها فطوتها بلا نظام
وفى المحطة التالية أصبح المقعد المجاور خاويا
جلس
ابتسمت لعينيه
عطره رهيب
يأخذها
حلت عن ذراعها حزام الحقيبة..التفت اليها..سأل سؤالا
كانت تنظر فى بلاهة
عاد يكرر السؤال مبتسما وكأنما يخاطب طفلة:
كم الساعة؟
ممممممممممم
عندما أدركت للسؤال معنى ضحكت بغباء..نظرت فى ساعتها..أخبرته
لم تخفى عليها نظرته المندهشة وهو يدقق فى رسغها الذى كاد يصرخ من وطأة ضمة الساعة
ابتسمت باحراج
ومع مرور اللحظات..انتظرت حديثه..لكنه لم يتحدث
بداالفراغ يسكن بينهم بعد أن ذابت حرارة الموقف
تشاغلت بالجريدة لحظة
ولكن ماذا بعد الصمت؟
حلت الساعة عن معصمها..اثارها واضحةوضعتها فى الحقيبةبادرها بسؤال عن محطتها
أجابت على الفور وهى تلتفت اليه باهتمام
سألت بدورها..وأصابها الاحباط حين علمت انه سبفارقها أولا
مرت لحظة صمت أخرى لا تجد ما يشغلها عنه
عطره القوى يقيدها
بدأ الزحام ينحسر تدريجيا
يمنحهما بعض الخصوصية
لديهما فرصة للحديث ولكنه لا يبادر
تملكها صداع من نوع غريب
تطرق الجريدة باناملها فى توتر
لماذا لا يتحدث؟
مدت يدها الى قمة رأسها
حلت قيد شعرها القاسى
سالت خصلاتها الناعمة على كتفيها كالشلال
تشعر الان باسترخاء لذيذ أسندت رأسها للخلف
ابتسمت
حين التفتت اليه
وجدته يتابعها بشغف
عادت تلملم أطرافها بارتباك
خجلى هذه المرة
قال:الجو دافء اليوم
كاد قلبها يقفز
همست بخجل: أجل
توقف المترو
ونهض هو
نهض معه قلبها
شيعها بنظرة أشبه بالوداع الاسف قال:
فرصة سعيدة
ابتسمت ابتسامة باهته وهى تهمس: انا أسعد
وغادر
بعد لحظة عاودها الشعور بالقلق..
نظرت حولها..كانت وحيدة
اعتدلت فى جلستها باهتمام وهى تعاود فتح الجريدة..
تشعر أنها فقدت شيئا
انتبهت لحقيبتها
لملمت أشياءها
ما الذى يجعلها تشعر اناه فقدت شيئا؟
يا الهى..ساعتها الثمينة..رات علامة القيد فى معصمها
أسرعت بتوتر شديد تبحث فى الحقيبة
التقطت أنفاسها اللاهثة حين وجدتها كما وضعتها
وعندما توقف المترو كانت هى محطتها الاخيرة
لملمت أشياءها..الجريدة..الحقيبة..الساعه
وحين أقلع المترو سارت بخطوات وئيدة حائرة..لازالت تشعر أنها فقدت شيئا

جولة

شقة مثل باقى الشقق فى العمارة..أربعة حجرات فسيحة وبهو رحب يزينه أعمدة فرعونية مطرزة باللون الذهبى...مضيئة دون اضاءة..عطرة دون عطر..نسيم رخيم مجهول المصدر..وحسن مبهر يسكن جنباتها العادية جدا..ماسر الجمال فيها؟
هدوء لا يقطعه سوى دقات خافتة لعقارب الساعة الضخمة ذات البندول الذهبى الطويل...تك تك تك تك
هدوء يمتزج به صوت خفيض لمذيع يعلق على مباراة..أمام التلفاز جلس..مرتكنا بذقنه على قبضتيه المكورتين فى تحفز..وسيم الوجه متناسق الملامح....عينيه محتقنتان بغير مبرر..أنفاسه تكاد تغطى على كل صوت..فكيه تصطكان على الغيظ المكبوت..
تابعته من خلف باب غرفتها..عيناها ملؤهما الترقب والتوتر..أغلقت الباب بتؤدة ثم همست عبر سماعة الهاتف:
_دة ح ينط فى التليفزيون يا ماما..
.....
_مش عارفة..أنا مش متطمنة
انتفضت فى لحظة على صرخاته العنيفة الممتزجة بهياج من الجماهير داخل التلفاز وخارجه
ألقت الهاتف وفتحت الباب مندفعة اليه..صرخت
_أحمد حبيبى..
تندفع نحوه وقلبها يرتجف..
أوقفها فجأة باشارة من كفه وهو يهتف بانفعال:
_فيه ايه...؟ بلاش أتفرج؟
اغتصبت ابتسامة..تنظر اليه..تريد أن تخترقه..يهرب بعينيه منها..أسنانه تصطك..تكاد تسمع صوتها...انه يغلى..عاد يقول وهو يراوغ نظراتها..
_أنا بتفرج عادى..
ولكنه لن يخدعها..ازدردت لعابها وهى تقول فى صعوبة
_أنا عارفة..تشرب...
انتفض صارخا..
_مش عاوز زفت...
أطبقت بكفيها على فمها لتكتم صرختها الفزعة..دون أن تدرى انهمرت دموع الخوف..تراجع خطوتين وهو يقبض كفيه فى عصبية محاولا ابتلاع شحنة الغضب..استجمع أقصى مايمكنه من هدوء مشوب بعاصفة غضبه وهو يقول بافتعال بالغ
_أنا هادى جدا..جدا..
تراجعت خطوتين..ثلاثة..بتردد بالغ استدارت لتعود أدراجها ..تبتلع الدموع ..ارتجافة جسدها ...لا تستطيع أن تقف على قدميها..تابعته من خلف الباب عبر دموعها..رعبها...ارتجافها..هى تعلم..حانت منها لفتة الى نافذة الصالة.. على مصراعيها..كان يجب أن تغلقها..ولكنها لو فعلت هذا أمامه؟؟..ربما أطاح بها..
أغلقت الباب..أعصابها لا تحتمل النظر اليه والانتظار..قلبها يرتعد..أوصالها ترتعد..غطت وجهها بكفيها..لا تود البكاء..يجب أن تتماسك..
وفجأة ..صرخة أخرى أشد عنفا وقوة..فتحت الباب وهى تحاول التماسك..نظرت من خلفه..حدث ما تنتظره..أنقلب الوجه الوديع الى جمرة نار ملتهبة..عينان تقدحان الدم..شفاه غارقة بزبد متناثر...فى لحظة انقلب..يصرخ كالرعد..تناول عنق الزهرية ودقها بعرض الحائط فتناثرت أشلاء...أسرعت مندفعة الى النافذة تحكم اغلاقها..لا تريد أحدا أن يراه أو يسمعه..تحكم اغلاق كل المنافذ وهو خلفها يرعد ويزبد ويحطم..تناولها من شعرها..كتمت صرختها المتألمة وهى تشعر بنفسها تطير من قوة جذبه لها...ومع رعدته الأخيرة اصطدمت بالجدار فى عنف..هز الالم جسدها كله ..انتفضت كما انفجرت الزهرية فى يديه..ورأت اندفاع الدم من رأسها فى كل مكان..غامت الدنيا حولها..لم تعد تسمع سوى عوائه حولها يذوب فى العدم..أنفاسها تتردد فى صدرها ونبضات قلبها تئن...وسقطت..
***********************
استقرت من جديد من سماء الوهم لترقد على الأرض القاسية...أغرقها العرق ..أنفاسها تعود..فتحت عينيها بعد أن شعرت بكيانها من جديد...وقع بصرها على الجدار الملطخ بالدماء..انتفضت جالسة..لم تعبأ بوجهها المتورم الذى يكسوه الدماء...لم تعبأ بالدوار الذى جعل خطواتها مترنحة..كانت تبحث عنه فى الحجرات..تهتف باسمه فى لهفة..دمعها يسبقها...أسرعت الى الحمام..كان هناك كما توقعت..متكوما عند البانيو...رأسه على حافته تسيل منها الدماءعلى جداره ..أنكبت عليه ترفعه..فتحت الصنبور حاولت غسل رأسه..تركته وأسرعت تحضر منشفة..بللتها فى المياه وطفقت تمسح الدماء عن وجهه..أدركت عمق الجروح..سال منه الكثير من الدماء..حقنت الدماء ..كانت تبكى وتقبل كل وجهه....كان جسده بارد..أظافره زرقاء..سحبته فى عنا الى حجرة النوم..حاولت حمله فى صعوبة...كانت تجاهد..تصرخ من الثقل والجهد..تبكى من قلة حيلتها معه..تستريح وتستأنف..سحبته حتى الفراش..بصعوبة ومعاناة رفعته فوقه..أسرعت تجلب الأغطية..تدفء أطرافه الباردة..تقبل هذه الأطراف..كلمة واحدة ترددها فى لهفة..حبيبى..حبيبى..حبيبى..
***********************
أفاق بعد وقت طويل..حين فتح عينيه وجدها تجلس على الأرض بجوار الفراش..نائمة تسند راسها على طرف الفراش..شعرها اشعث...جبينها أزرق متورم...دماء جافة داكنة تغطى كل وجهها..همس بلوعة:
_اللعنة...
تحسس بيديه وجهها الجميل..ما الذى يفعله بها كل مرة؟..غادر الفراش..حملها على ذراعيه كطفل فاستيقظت...ضحكت بفرحة عارمة وهى تهتف باسمه..همس بحزن قاتل:
_اتركينى أرجوكى..
_لا أستطيع..
_الى متى تتحملين؟
_الى أن تقتلنى..أو أن أقتلك..
ليته يقتلها أو تقتله..يستريح أحدهما من عذاب الاخر..ولكن كل شىء سوف يستمر







لعبة الحواس


1_القنص:
-سنلعب....
داخل الطريق الضيق...مصباح خافت قمرى الاضاءة...يتجمع حوله الفراش..لف شالها الحريرى حول عينيها ..ابتسمت..كيف الفته سريعا حتى أصبح بهذا القرب؟
تشعر به خلفها..وضعت يدها وهى تلتفت..فاصطدمت بالهواء..عادت تبتسم..
مهلا...يعاود الاقتراب..بلا تحفظ الان من أن تمسك به..أين قواعد اللعبة؟ ذابت ابتسامتها..يدفعها للجدار..أصبح أمامها والجدار خلفها..أين المفر؟ تريد أن تحرر عينيها لترى الحقيقة..رائحة نفاذة تصدم أنفها..برودة منديل مبتل تكتم شفتيها وأنفاسها..حاولت أن تصرخ..استنشقت أكثر..حتى الثمالة..دارت بها الدنيا..

***********
2-الصلب:
لاتزال فى الظلام..مازالت الرائحة النفاذة فى أنفها..ممتزجة هذه المرة برائحة أخرى غريبة تزكم الأنوف..رائحة نتنة تندس الى رئتيها بقوة...ألم قوى فى ساقيها..وذراعيها..هى مصلوبة..أو معلقة..قيد شائك يحيط رسغيها..تجذبه بلا جدوى..عنفها يؤذيها هى أولا..استكانت فى يأس مع عبث المحاولات..الرائحة النتنة تزكمها ..تصيبها بالغثيان..أفرغت مافى جوفها وهى تسعل بلاتوقف..لاصوت سوى صوتها..لا حركة سوى حركتها..برودة غريبة كأنها فى قبو..أقدامها الحافية تتلمس ما يوجد أسفل منها..شيئا لينا فى الجوار..حاولت تحسسه بأطرافها الباردة..كان أكثر برودة منها..اقشعر جسدها وانتفض قلبها...انه وجه..وشعر...ان أقدامها تطأ بشرا...صرخت..

***************
3-العطش:
لاشىء سوى بكائها بلا انقطاع..تنام وتصحو على وضعها المؤلم..ظلام مطبق وأجساد أسفل الأقدام..الام بذراعيها جعلتها تفقد الشعور بالألم..تيبست...
الجفاف يستشرى بداخلها..الان فقط شعرت بالعطش...تشعر بأوردتها وشرايينها تلتصق على الفراغ..يد تعتصر فيها الحياة حتى النخاع...تتململ فى الوقوف..تنقل ثقلها على قدم لتريح الاخرى..تشب على أطراف أصابعها لتريح ذراعيها المصلوبتين...العطش يشق حلقها بالجفاف..شفتاها جافتان..لا لعاب تزدرده ..قطرة من ماء!...صرخت:
-عاوزة أشرب!!!!!

**************
4-الانشطار:
أحلامها المبتورة لا تكتمل..كوابيس لاتتوقف..بدأت فى الانشطار ..انشطرت على ذاتها...أصبحت كتلتين..جسد خائر القوى...بلا مقاومة معلق بين السماء والأرض..وماتبقى من ذكريات انسانة كانت تعرفها...ذكريات بعيدة معتمة كأنما تخص غيرها....
ضحكات اللهو والبراءة..حديقة غناء فى نهار مشرق..كل مافيها أخضر...فتحى ياوردة..غمضى ياوردة..ضحكات طفولية شقية..تركض مع الأطفال..
دموع فراق الأحبة..عناق دافء من أب يستعد للسفر...فرحة النجاح وصرخة تشق عنان السماء
-أحبك ولن أحب سواك..
ثم أمها تصرخ بصوت مفزع...غبية!!!!!!!!!!!!!!
انتفضت لتفيق من غيبوبتها..لم تعد تؤمن بالحوارات الجدلية العقيمة..أصبح الكون واضح المعالم..حياة وموت...وهى على أعتاب أحدهما ومشارف الأخرى...سؤال واحد ملح...هل ستموت هنا؟؟

*****************
5-السلخ:
أما أن لهذا العذاب ان ينتهى؟؟
أنفاسها تتردد فى عمق..تكاد تسمع نبضاتها فى هذا السكون المريع..اعتادت أنفها الرائحة المقززة..لم تعد تشعر بالألم..خارت قواها..علقت نفسها لتريح أقدامها اليائسة...لم تعد تستطيع!
فجأة...
استشعرت الضوء الخافت..حركت عينيها..التصقت رموشها بالشال الحريرى المعقود حول عينيها..خيالات لا تفهمها..أجسام غريبة داكنة...
التقطت أذناها صوت أقدام وهمهمات..
هتفت: اغيثونى!!!
أصوات رتاجات تفتح وسلاسل ثقيلة تسقط..صرير باب مزعج..شبح رجلان تراهما حولها..أزاحا من تحتها اشياء..لامست قدماها الارض الأسمنتية الباردة..كانت تتوسل..تبكى..تسأل...لا مجيب..أيديهما القوية تحررها ..سقطت بين ذراعيهما فى انهيار الألم..لاتقوى على السير..يجرانها بلارحمة..تهتف وتبكى..ولا حياة لمن تنادى...لا تفهم شيئا..
رفعاها وهى ترتجف على لوح بارد من الرخام..شعرت بظهرها المتشنج يئن..الان فقط عاودت الشعور بالألم..لا تكاد تدرك ان جسدها ملك لها..تحركه كما تشاء..ولكن....
مرة أخرى يجذبان ذراعيها وساقيها الى قيود جديدة..أقوى وأشد..بدأ نحيبها يعلو..شعرت بأحدهما يغرس فى ذراعها ابرة..لم تعد تشعر بالألم....وسقطت فى بئر من الصمت والسكون..

*******************
6-الشق:
خيالات واوهام كالأمواج...تريد ان تطفو على السطح...يرفعها الموج عاليا لبعض الوقت ثم يقذفها بعنف ...بحر بلا نهاية..
لاتزال تشعر بالام رسغيها..اه...الم أقسى يشقها نصفين..فراغ فى أحشائها..كأن سكين حاد مغروس فى جانبها..جرح رهيب مؤلم كشق من نار..مصلوبة من جديد..تبكى..مامعنى البكاء؟؟ مامعنى الألم؟...ذراعاها ممزقان وساقاها كأعواد القش..نبضها ضعيف..أنفاسها لاهثة..العرق يتصبب..يسيل على وجهها ويقطر من ذقنها..الالم يشق جنبها..تصرخ بما تبقى لديها من صوت يائس مبحوح...

*******************
7-الخلاص:
انتبهت لأصداء الرتاجات والسلاسل..أصواتهم هذه المرة تتضخم فى اذنيها..تأهبت للجولة الثانية..أين الشق هذه المرة؟
كانا يحملان ذراعيها بينهما بينما ساقيها تزحفان خلفها باستسلام..وعلى نفس اللوح الرخامى وبنفس القيود صلبت من جديد..بعض الراحة بعد طول الوقوف..التقطت نفسا عميقا وابتسمت...
الابرة تغرس من جديد..وفى لحظة..
صوت سيارات الشرطة..الاسعاف..لابد انها تهلوس...تدافع أقدام..صرخات وصيحات...طلقات تتعالى..هرج ومرج..انها فى هلاوس الحلم..أكان حلما؟...
يد تفك قيودها..يحملونها..وضوء قوى يخترق عينيها..أبصرت من جديد..ولكن..ياللنوم الذى يثقل جفنيها..واستسلمت..